التنوع الحيوي
منذ أن بدأ الأنسان بذل جهده الحثيث لتطويع الطبيعة والبيئة لخدمة اغراضه، منذ 120 قرنا من الزمن، أخذ الناس بتدجين الحيوانات وبزراعة المحاصيل من أجل غذائهم وسد حاجاتهم الأساسية الأخرى. وتركيز الانشطة الزراعية والحرجية والسمكية الحديثة الى هذه المسيرة الطويلة المتمثلة في تنويع النباتات والحيوانات المفيدة وتدجينها، كي تتلاءم مع مجموعة واسعة من أحوال البيئة، وتلبي مجموعة متنوعة من الاحتياجات البشرية .
إلا أن الأخطار أخذت تحيق بالتراث الذي خلفته لنا الطبيعة من الموارد الوراثية المتنوعة. فقد بدأت هذه الموارد بالتآكل، أي أن دائرة التنوع أخذت بالتقلص والانكماش داخل الواحد وبين الأنواع المختلفة، الأمر الذي يشكل خطرا عالميا يحدث للزراعة .
نعني بالتنوع البيولوجي تباين الكائنات العضوية الحية المستمدة من كافة المصادر بما فيها النظم الأيكولوجية الارضية والبحرية والاحياء المائية. وللحفاظ على التنوع البيولوجي يجب المحافظة على الموارد البيولوجية، والموارد البيئية والأجناس، والعناصر الحيوانية والنباتية التي لها قيمة فعلية أو محتملة للبشرية. فقد ثبت ان تنوع الكائنات الحية له قيمة جوهرية للنظم الايكولوجية والبيئية والإجتماعية والاقتصادية والعلمية والثقافية. وصيانة التنوع البيولوجي يستلزم المحافظة على الأنواع القادرة على البقاء والعمل على تنشيطها داخل محيطاتها الطبيعية. أو داخل نظمها الايكولوجية وموائلها الطبيعية، أو في المحيط الذي يتطور فيه خصائصها في حالة الانواع المدجنة والمستنبتة، أي الأنواع التي تتطور بتأثير من البشر لتلبية احتياجاته. لقد تعرض التنوع البيولوجي لنقص خطير بفعل الأنشطة البشرية التي تؤثر على امكانية حصول البشر في المستقبل على حاجاتهم من الطعام والدواء .
يمكن تقسيم التنوع الحيوي الى ثلاث مستويات : تنوع الأنظمة الايكولوجية، وتنوع الأنواع، والتنوع الوراثي. وكل منها له أهميته الحيوية لاستمرار رفاهية الجنس البشري. فتنوع النظام الايكولوجي له دور لا غنى عنه في الحفاظ على الأنظمة المنضبطة والمتباينة الداعمة للحياة. وتنوع الأنواع يعد مصدرا هاما للاكتشافات المتواصلة للأدوية العشبية الجديدة والأغذية والزيوت والاصباغ. وتنوع المورثات الجينية ضروري سواء أكان بين الأنواع أو النظم البيئية، وذلك لضمان قدرتها المستمرة مع التكيف على الأوضاع البيئية الجديدة. فعلى سبيل المثال نجد الموارد الجينية التي مصدرها النباتات الاستوائية قد حافظت على محاصيل تجارية مثل الكاكاو والبن والموز. وفضلا عن كونه مهما لرفاهية الجنس البشري، يعتبر التنوع البيولوجي مهما للكثيرين بسبب قيمته الحيوية ولقيمته الايكولوجية والجينية والإجتماعية والاقتصادية والعلمية والتعليمية والثقافية والترفيهية والجمالية. فبالرغم من أهميته لم يمنح التنوع البيولوجي الإهتمام الذي يستحق، وزاد تهميشه مع مرور الوقت، وتزايد النشاط البشري فمعدلات الأنقراض قد قدرت بأنها الاعلى من نوعها منذ حوالي الستين مليون سنة، كأن السبب الغالب هو نتيجة للنشاطت البشرية .
إن التراث البيولوجي الذي تناقلته الأجيال المتعاقبة حتى وصل الينا، تتهدده الآن وتيرة التغير المتسارعة والآثار الجانبية المقيتة للتصنيع ، والتزايد المستمر في عدد سكان العالم .
إن الموارد الطبيعية تستغل اليوم بمعدلات تتجاوز قدرتها على مواصلة امدادنا بالغلات. وتنجم أشد الأخطار بتحويل الموائل والمنابت الطبيعية وتغييرها، سواء لضمان عيش الكفاف أو خدمة لأغراض التجارة. فالأراضي التي يبتلعها شق شبكات الطرق السريعة والتوسع العمراني، الى جانب تجفيف الأراضي الرطبة، والرعي الجائر، والدأب على قطع الغابات وحرقها لأغراض الزراعة، والاحتطاب الجائر، والاستعمال العشوائي المكثف للأسمدة والمبيدات، وفي صيد الأسماك ، كذلك تلوث الماء والهواء ... كلها أمور تلحق أضراراً خطيرة بالموارد الطبيعية .
ففي كل عام تتعرض للتدهور مساحة من الأراضي الزراعية تتراوح بين خمسة وسبعة ملايين هكتار. وفي الفترة الممتدة من 1980 الى 1990 كانت الغابات تدمر بمعدل سنوي قدره 4.15 مليون هكتار، بكل ما تحتوي من أشكال التنوع البيولوجي. ومنذ مطلع القرن باد نحو 75 في المائة من التنوع الوراثي في الحاصلات الزراعية. وتتربص الأخطار بكل الموارد الوراثية لمئات .
بالرغم من أن قضية التنوع الجيني، أو البيولوجي تعتبر من أهم القضايا البيئية ذات التأثير المباشر على الإنسان، إلا أنها ما زالت غير واضحة المعالم للكثيرين، خصوصا في العالم العربي. وفي الوقت الذي تنال فيه القضايا الاخرى، مثل التصحر والتلوث، بعض التغطية الاعلامية والدراسة والبحث يبدو التنوع الجيني قضية أبعد ما تكون عن فهم المواطنين العاديين .
وتشير التقديرات الى وجود ما بين 5 - 30 مليون صنف من الكائنات الحية في عالمنا، نجح الانسان في تحديد حوالي 5.1 مليون صنف منها فقط .
وفوائد هذا التنوع الجيني للإنسان عظيمة جدا، فعالم اليوم يستخرج نصف ما يحتاجه من الأدوية من النباتات، وكميات الاغذية الهائلة التي يمتلكها الغرب تستند على مخزون من الجينات متناهية العدد. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ترتكز 25 بالمائة من الوصفات الدوائية على عقاقير مستخرجة من النباتات. وإذا أخذنا بعين الاعتبار ان واحدا بالمائة فقط من النباتات الموجودة على سطح الارض قد تم بحث إمكانية الاستفادة منها طبيا، يمكن القول أن بقية أنواع النباتات تحمل امالا كبيرة حول إيجاد المزيد من العقاقير والادوية التي قد تسهم في معالجة بعض الأمراض التي لم يكتشف لها علاج بعد. ويقدر عدد أنواع النباتات التي قد يمكن استخدامها في معالجة مرض السرطان بحوالي 1400 نوع .
إضافة الى ذلك ، فإن نصف المحاصيل الزراعية التي ينتجها الإنسان حاليا جاءت من أصناف نباتية تعيش في الغابات الاستوائية التي تواجه الآن خطر فنائها نتيجة عمليات قطع الاشجار الجائرة. وإذا لاحظنا ان نصف الحقول الزراعية في كندا تزرع بنوع واحد من الحنطة وان كل انتاج الولايات المتحدة من فول الصويا يرجع أصله الى ستة نباتات جاءت من مكان واحد في آسيا. فأننا ندرك أن قلة التنوع هذه تشكل خطورة كبيرة على المحاصيل الزراعية لأن نوعا واحدا من الاوبئة أو الحشرات يمكنه أن يقضي على كل محاصيل دولة من الدول .
بمعنى آخر، إن سعي العلماء وراء الانتاجية الوافرة من خلال استيلاد النباتات أدى الى تحجيم القاعدة الجينية لمحاصيل الاغذية. وكان ذلك في غالب الأحيان على حساب قدرة هذه النباتات على مقاومة الاوبئة. وقد أدى ذلك ازدياد الاعتماد المفرط للزراعة على المواد الكيماوية التي يشكل غلاء ثمنها عبئا كبيرا على صغار الفلاحين. وتكمن أهمية التنوع الجيني وضرورة المحافظة عليه في أن الجينات من الأنواع البرية القوية التي تنتمي لنفس الفصيلة على استعادة النباتات لمقاومتها المفقودة. وقد وجد، مثلا، أن احدى الفصائل البرية للحنطة التي وجدت في تركيا يمكنها ان توفر المقاومة والحماية لمحاصيل الحنطة في سهول كاليفورنيا .
لكن من المؤسف ان اهمية التنوع الجيني لم تلق الاهتمام الكافي سواء من المسؤولين أو الناس العاديين رغم انها معرضة لخطر شديد. وفي الواقع فإن هناك العديد من انواع الكائنات الحية ـ من نباتات وحيوانات ـ التي تنقرض كل يوم بسبب اعمال الإنسان. وتشير مصادر برنامج الأمم المتحدة للبيئة الى انقراض واحد من الكائنات الحية كل ساعة من الزمن. ويعتقد أن حوالي مليون كائن حي (نباتات وحيوانات وحشرات وغيرها) سينقرض بحلول عام 2000 .
إن السبب الرئيسي لانقراض هذه الكائنات هي تدمير مواطنها، بسبب تدخل الانسان في الطبيعة بشكل مدمر. فنصف الحيوانات والنباتات تعيش في الغابات الاستوائية، إضافة الى 80 في المائة من الحشرات و90 في المائة من بعض الحيوانات الثديية الاخرى مثل القرود. لكن الغابات الاستوائية تواجه حملة هائلة لتدميرها. وبتقطيع الاشجار تنهار نظم حيوية بأكملها. وتنقرض كائنات حية وتنقرض كائنات حية كثيرة .
فالغابات الاستوائية التي تغطي 6-7 في المائة من مساحة سطح الارض، تتقلص بمعدلات رهيبة سنويا. ويفيد المراقبون بأن مساحة الغابات الاستوائية التي يتم قطعها سنويا تتراوح بين 11-15 مليون هكتار، وهي مساحة بحجم دولة مثل النمسا، وأكدت دراسة لمجلة <<تايم>> الامريكية أن 5 في المائة فقط من الغابات الاستوائية تتلقى حماية من الدول التي تملك هذه الغابات وان احتمال حدوث تدمير شامل لها ورد جدا .
إن نتائج تقطيع الاشجار في الغابات الاستوائية وخيمة على التنوع الجيني للكائنات الحية. ويؤكد الخبراء بأن تقليص مساحة الغابات بنسبة 10 في المائة يعني تدمير 50 في المائة من الكائنات الحية الموجودة فيها .
ويحذر هؤلاء من أن معدل انقراض الأنواع الحية حاليا يبلغ 1000 ضعف معدله التاريخي (وعلينا ألا ننسى بأن لتقطيع الغابات نتائج سلبية اخرى على البيئة إضافة لتدمير مواطن الكائنات الحية، مثل التصحر وانجراف التربة الخصبة والتأثير على دور الغابات في تنظيم المناخ وحماية مجمعات المياه التي تغذي أكبر أنهار العالم .
إن إزدياد الاخطار المحدقة بوجود الكائنات الحية وتنوعها دفع العديد من المنظمات والهيئات الدولية الى التحرك لحماية هذه الكائنات من الإنقراض. وقد قام برنامج الأمم المتحدة للبيئة بالعديد من المبادرات في هذا المجال اقتناعا منه بارتباط مستقبل الإنسانية بمصير انواع الكائنات المهددة بالإنقراض. ففي أواسط السبعينات قام البرنامج بالاشتراك مع الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة والموارد الطبيعية بالعمل على صياغة هيكلية لعمل دولي. وفي عام 1980 وبالتعاون مع الصندوق الدولي للحياة البرية تم صياغة الاستراتيجية العالمية لصون الطبيعة التي اعتبرت أول بيان يربط بين الحفاظ على الموارد والحياة والتنمية القابلة للاستمرار في المجتمع الحديث. وقد أوصت هذه الاستراتيجية باعتماد اولويات محددة للحفاظ على الكائنات الحية .
ويعالج برنامج الأمم المتحدة للبيئة حماية الموارد الحية من جانبين : أولا الحاجة الى حماية الأنواع ذاتها وثانيا ضرورة الحفاظ على مواطنها حتى تستطيع الاستمرار والارتقاء والاستجابة للتغيرات البيئية. ويعمل البرنامج أيضا مع اليونسكو ضمن البرنامج الخاص بإقامة مجموعة من محميات المحيط الحيوي التي تجمع بين منطقة مركزية محمية بصورة تامة ومنطقة فاصلة تخصص للأبحاث ولمراقبة والإدارة والتدريب .
ومن ضمن النشاطات العديدة الأخرى التي يقوم به البرنامج تأسيس شبكة من ستة مراكز اقليمية للموارد الميكروبيولوجية بالتعاون مع اليونسكو، إضافة الى الاشتراك في العديد من المشاريع الهادفة الى الحفاظ على الموارد الجينية النباتية والحيوانات المهددة بالانقراض .
باختصار، إن عالم اليوم الذي يعتمد على الكائنات الحية من نباتات وغيرها في الحصول على نصف الدواء والغذاء اللازم له سيخسر الكثير إذا لم يتم وقف حملة الابادة لهذه الكائنات. لذلك فإن المزيد من الجهود القطرية والاقليمية والدولية يجب بذلها للحفاظ على هذه الكائنات من أجل تأمين مستقبل أفضل للإنسانية .
ولقد جاء توقيع اتفاقية التنوع الحيوي خلال مؤتمر الأمم المتحدة المعنى بالبيئة والتنمية في البرازيل في عام 1992 كخطوة ايجابية في الاتجاه الصحيح. لقد وقعت حوالي 150 دولة هذه الاتفاقية، ولكن ما زالت هناك حاجة لتوسيع الاتفاقية وزيادة فعاليتها لحماية هذه الموارد قبل فوات الأوان .